سورة الحشر - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحشر)


        


قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني: يهود بني النضير {من ديارهم} أي: من منازلهم {لأول الحشر} فيه أربعة أقوال.
أحدها: أنهم أول من حُشر وأُخرج من داره، قاله ابن عباس. وقال ابن السائب: هم أول من نفي من أهل الكتاب.
والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله الحسن. قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ: اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر.
والثالث: أن هذا كان أول حشرهم. والحشر الثاني: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب قاله قتادة.
والرابع: أن هذا كان أول حشرهم من المدينة، والحشر الثاني: من خيبر، وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات، وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطاب، قاله مرة الهمْداني.
قوله تعالى: {ما ظننتم} يخاطب المؤمنين {أن يخرجوا} من ديارهم لعزِّهم، ومَنَعَتِهم، وحُصُونهم {وظَنُّوا} يعني: بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} وذلك أَنَّه أمر نبيَّه بقتالهم وإِجلائهم، ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون، ولا يحسبونه {وقذف في قلوبهم الرعب} لخوفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لقتل سيدهم كعب بن الأشرف {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} قرأ أبو عمرو {يُخَرِّبون} بالتشديد. وقرأ الباقون {يَخْرِبُون}. وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أن المشددة معناها: النقض والهدم. والمخففة معناها: يخرجون منها ويتركونها خراباً معطَّلة، حكاه ابن جرير، روي عن أبي عمرو أنه قال: إنما اخترت التشديد، لأن بني النضير نقضوا منازلهم، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة.
والثاني: أن القراءتين بمعنى واحد. والتخريب والإخراب لغتان بمعنى، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة. وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال.
أحدها: أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دارٍ من دُورهم هدموها ليتسع لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إِلى ما يليها، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئاً من حصونهم نقضوا ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله الضحاك.
والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب، فيستحسنونه، فيهدمون البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري.
والرابع: أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسداً منهم، وبغياً، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} الاعتبار: النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و{الأبصار} العقول. والمعنى: تدبَّروا ما نزل بهم {ولولا أن كتب الله} أي: قضى {عليهم الجلاء} وهو خروجهم من أوطانهم.
وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين.
أحدهما: أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة. والإخراج: قد يكون لواحد ولجماعة. والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج {لعذَّبهم في الدنيا} بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة {ولهم في الآخرة} مع ما حلَّ بهم في الدنيا {عذابُ النَّار، ذلك} الذي أصابهم {بأنهم شاقُّوا الله} وقد سبق بيان الآية [الأنفال 13] و[محمد 32]. قال القاضي أبو يعلى: فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إِذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يُؤدُّوا الجزية. وإِنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم، وعلى الحلقة، وترك لهم ما أقلَّت الإبل، وذلك مجهول.
قوله تعالى: {ما قطعتم من لينة} سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر. وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصَّنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم، وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمتَ أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أُنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فنزلت هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى.
وفي المراد باللينة ستة أقوال.
أحدها: أنه النخل كلُّه ما خلا العجوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة، وقتادة، والفراء.
والثاني: أنه النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أنها ألوان النخل كلّها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الزجاج: أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة. وأصل {لينة} لِوْنة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
والرابع: أنها النخل كلُّه، قاله مجاهد، وعطية، وابن زيد. قال ابن جرير. معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل.
والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان.
والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديدة الصُّفْرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب ثمرهم إليهم، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ست نخلات، قاله الضحاك.
والثاني: أحرقوا نخلة، وقطعوا نخلة، قاله ابن إسحاق.
والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل.
قوله تعالى {فبإذن الله} قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله.
قوله تعالى: {وليخزي الفاسقين} يعني اليهود. وخزيهم: أن يُريَهم أموالهم يتحكَّم فيها المؤمنون كيف أحبُّوا. والمعنى: وليخزي الفاسقين، أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: {فبإذن الله}.


قوله تعالى {وما أفاء الله على رسوله} أي ما ردَّ عليهم {منهم} يعني: من بني النضير {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} قال أبو عبيدة: الإيجاف: الإيضاع، والركاب: الإبل. قال ابن قتيبة: يقال وجف الفرس والبعير، وأوجفته ومثله: الإيضاع، وهو الإسراع في السير. وقال الزجاج: معنى الآية: أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
قال المفسرون: طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمِّسَ أموال بني النضير لما أُجْلُوا، فنزلت هذه الآية تبين أنها فيئ لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو له خاصة، يفعل فيه ما يشاء، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئاً، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دُجَانة، وسهل بن حُنيف، والحارث بن الصِّمَّة. ثم ذكر حكم الفيئ فقال تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} أي: من أموال كفار أهل القرى {فلله} أي: يأمركم فيه بما أحب، {ولرسوله} بتحليل الله إياه. وقد ذكرنا {ذوي القربى واليتامى} في [الأنفال: 41] وذكرنا هناك الفرق بين الفيئ والغنيمة.
فصل:
واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم: أن المراد بالفيئ هاهنا: الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت في بدوِّ الإسلام للذين سمَّاهم الله هاهنا دون الغالبين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في [الأنفال: 41] {واعلموا أنما غنمتم من شيء...} الآية، هذا قول قتادة، ويزيد بن رومان. وذهب قوم إلى أن هذا الفيئ: ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف بخيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أخماس، فأربعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية.
واختلف العلماء فيما يصنع بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته على ما بيَّنَّا في [الأنفال: 41] فعلى هذا تكون هذه الآية مثبتة لحكم الفيئ والتي في [الأنفال: 41] مثبتة لحكم الغنيمة، فلا يتوجه النسخ.
قوله تعالى: {كي لا يكون} يعني: الفيئ {دُولة} وهو اسم للشيء يتداوله القوم. والمعنى لئلا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبوا الفقراء عليه. قال الزجاج: الدُّولة: اسم الشيء يتداول. والدَّولة، بالفتح: الفعل والانتقال من حال إلى حال {وما آتاكم الرسول} من الفيئ {فخذوه وما نهاكم} عن أخذه {فانتهوا} وهذا نزل في أمر الفيئ، وهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه.
قال الزجاج ثم بين مَن المساكين الذي لهم الحق، فقال تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم} قال المفسرون: يعني بهم المهاجرين {يبتغون فضلاً من الله} أي: رزقاً يأتيهم {ورضواناً} رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة {أولئك هم الصادقون} في إِيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيئ، فقال تعالى: {والذين تبوَّؤُا الدار} يعني: دار الهجرة، وهي المدينة {والإيمان من قبلهم} فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوَّؤوُا الدار من قبلهم، أي: من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على {الدار} في الظاهر، لا في المعنى، لأن {الإيمان} ليس بمكان يُتَبَوَّأُ، وإنما تقديره: وآثروا الإيمان، وإِسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين. وقيل: الكلام على ظاهره، والمعنى: تبوَّؤوا الدار والإيمان قبل الهجرة {يحبُّون من هاجر إليهم} وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم {ولا يجدون في صدورهم حاجة} أي: حسداً وغيظاً مما أوتي المهاجرون.
وفيما أوتوه قولان:
أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن. وقد ذكرنا آنفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر.
والثاني: الفضل والتقدُّم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم} بأموالهم ومنازلهم {ولو كان بهم خصاصة} أي فقر وحاجة، فبين الله عز وجل أن إيثارهم لم يكن عن غنى. وفي سبب نزول هذا الكلام قولان:
أحدهما: «أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله: إِني جائع فأطعمني، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه: هل عندكنَّ شيء؟ فكلُّهن قلن: والذي بعثك بالحق ما عندنا إِلا الماء، فقال: ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يطعمكَ هذه الليلة. ثم قال: من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدَّخري عنه شيئاً، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: قومي فعلِّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئاً، ثم أصبحي سراجِك، فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالَيْ نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، وظن الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويَين، فلما أصبحا غَدَوَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر اليهما تبسَّم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما» فأنزل الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة...} الآية. أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة: أن الضيف كان من أهل الصُّفَّة، والمضيف كان من الأنصار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لقد عجب من فعالكما أهلُ السماء». والثاني: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ له رأسُ شاةٍ، فقال: إِن أخي فلاناً وعياله أحوج إِلى هذا منا، فبعث به إِليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تداولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر. وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أُهدي لبعض الصحابة رأسُ شاةٍ مشويّ، وكان مجهوداً، فوجَّه به إلى جارٍ له فتناوله تسعةُ أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه} وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء، {ومن يُوَقَّ} بتشديد القاف. قال المفسرون: هو أن لا يأخذ شيئاً مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئاً أمره الله بأدائه. والمعنى: أن الأنصار ممن وُقِيَ شُحَّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيئ للمهاجرين.
فصل:
وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما، فرق، أم لا؟ فقال ابن جرير: الشُّحُّ في كلام العرب: هو منع الفضل من المال. وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشُّحُّ بمنزلة الجنس، والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل: إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قِبَل الطَّبع والجِبِلَّة. وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يَضِنَّ بماله، والشح: أن يبخل بماله ومعروفه. وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: {ومن يوق شح نفسه} وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديَّ شيء، فقال: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشُّحُّ: أن تأكل مال أخيك ظلماً، إِنما ذلك البخل، وبئس الشيء البخل وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «برئ من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة، وَقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة». قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} يعني التابعين إلى يوم القيامة. قال الزجاج: والمعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} أي: الذين جاؤوا في حال قولهم: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا} فمن ترحَّم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم، فله حَظٌّ من فيئ المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحَّم عليهم، وكان في قلبه غِلٌّ لهم، فما جعل الله له حقاً في شيء من فيئ المسلمين بنص الكتاب. وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: من تنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ، فليس له حق في فيئ المسلمين، ثم تلا هذه الآيات.


قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا} يعني: عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه {يقولون لإخوانهم} في الدِّين، لأنهم كفَّار مثلهم، وهم اليهود {لئن أُخرجتم} من المدينة {لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم} أي: في خذلانكم {أحداً أبداً} فكذَّبهم الله تعالى في ذلك بقوله: {والله يشهد إِنهم لكاذبون} ثم ذكر أنهم يُخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى، لأنهم أُخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقُوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى {ولئن نصروهم} لئن قُدِّر وجودُ نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده. وقوله تعالى: {ثم لا ينصرون} يعني: بني النضير.
قوله تعالى: {لأنتم أشد} يعني: المؤمنين أشد {رهبة في صدورهم} وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل.
والثاني بنو النضير، قاله الفراء.
قوله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً} فيهم قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون.
والثاني: اليهود والمنافقون، قاله ابو سليمان الدمشقي. والمعنى: أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون مُتَحَصِّنين {في قرىً محصنة أو من وراء جُدُر}، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان {جدار} بألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، {جُدُر} بضم الجيم والدَّال. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن أبي عبلة {جَدَر} بفتح الجيم والدال جميعاً، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري، {جَدْر} بفتح الجيم وسكون الدال. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وابن يعمر {جُدْر} بضم الجيم وإِسكان الدال {بأسُهم بينهم شديدٌ} فيما وراء الحصون شديد، وإذا خرجوا إِليكم فهم أجبن خلق الله.
قوله تعالى: {تحسبهم جميعاً} فيهم قولان:
أحدهما: أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل.
والثاني: بنو النضير، قاله الفراء.
قوله تعالى: {وقلوبهم شتى} قال الزجاج: أي: هم مختلفون لا تستوي قلوبهم، ولا يتعاونون بنيِّات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه.
قوله تعالى: {ذلك} يعني: ذلك الاختلاف {بأنهم قوم لا يعقلون} ما فيه الحظُّ لهم. ثم ضرب لليهود مثلاً، فقال تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريباً} وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: بنو قينقاع، وكانوا وادعوا رسول الله، ثم غدروا، فحصروهم، ثم نزلوا، على حكمه، أن له أموالهم، ولهم النساء والذُّرِّية. فالمعنى: مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع فيما فعل بهم.
والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد. والمعنى: مَثَلُ هؤلاء اليهود كمثلِ المشركين الذين كانوا من قبلهم قريباً، وذلك لقرب غزاة بني النضير من غزاة بدر.
والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مَثَلُ بني النضير كبني قريظة {ذاقوا وبال أمرهم} بأن قُتلت مقاتلتهم، وسُبِيَتْ ذراريهم، وهؤلاء أُجلوا عن ديارهم، فذاقوا وبال أمرهم {ولهم عذاب أليم} في الآخرة.
ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً فقال تعالى: {كمثل الشيطان}. والمعنى: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان {إذ قال للإنسان اكفر} وفيه قولان:
أحدهما: أنه مَثَلٌ ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد.
والثاني: أنه مَثَلٌ ضربه الله لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح قصته.
ذكر أهل التفسير أن عابداً من بني إسرائيل كان يقال له برصيصا تعبَّد في صومعةٍ له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوماً مردة الشياطين، فقال: ألا أحدٌ منكم يكفيني برصيصا؟ فقال الأبيض: وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرهبان، وأتى صومعته، فناداه فلم يجبه وكان لا ينفتل عن صلاته، إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطَّلع فرآه منتصباً يصلي على هيئة حسنة، فناداه ما حاجتك؟ فقال: إِني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدَّب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يُقْبِلْ إليه برصيصا أربعين يوماً، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده، قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعِد إليه، فأقام معه حولاً لا يفطر إِلا كل أربعين يوماً، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوماً، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إِليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا، وكره مفارقته، فلما ودَّعه قال له الأبيض: إِن عندي دَعَوَاتٍ أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلي، فقال برصيصا: إِني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلاً، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة، فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إِبليس فقال: قد والله أهلكتُ الرجل فانطلق الأبيض، فتعرَّض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبِّب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنوناً فأعالجه؟ قالوا: نعم فقال لهم: إِني لا أقوى على جنِّيِّه، ولكن سأرشدكم إِلى من يدعو له فيعافى، فقالوا له: دُلنَّا، قال: انطلقوا إِلى برصيصا العابد، فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه، فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنهم الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا، فيُعافَوْن، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبِّب، فقال أعالجها؟ قالوا: نعم.
فقال إِن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تَدَعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا، ومن هو؟ قال برصيصا، قالوا: فكيف لنا أن يقبلها منَّا، وهو أعظم شأناً من ذلك؟! قال: إن قبلها، وإلا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا اليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده. وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال له: انزل إِليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسناً وجمالاً، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف اليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتُضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فأن سألوك عنها فقل: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل بها حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إِذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدَّقوه، وانصرفوا. وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعتْ اليكم، فتفرَّقوا ينظرون لها أثراً، فلما أمسَوْا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إِن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا. وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، وبرصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، ولا يكترث، فانطلق إِلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر مثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط: وأنا والله، فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا، فسألوه عنها. فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتَّهمتموني، قالوا: لا والله، واستحيَوْا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إِزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدوَّ الله لم قتلتها؟ اهبط. فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلاً، ثم قادوه إلى الملك فأقرَّ على نفسه، وذلك أن الشطيان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بِقَتْلِهِ وصَلْبِهِ، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علَّمتك الدعوات، ويحك ما اتَّقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحيَيْتَ من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مِتَّ على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحدٌ من نظرائك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة حتى أُنجيك، وآخذ بأعينهم، وأُخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت {إني بريء منك} ثم قتل. فضرب الله هذا المثل لليهود حين غَرَّهم المنافقون، ثم أسلموهم.
قوله تعالى: {إني أخاف الله} ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء {إِنيَ} وأسكنها الباقون. وقد بيَّنا المعنى في [الأنفال: 48] {فكان عاقبتهما} يعني: الشيطان وذلك الكافر.

1 | 2